سورة الأنعام - تفسير تفسير البغوي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنعام)


        


قوله عز وجل: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} الآية، قال الكلبي: اجتمع أبو سفيان بن حرب وأبو جهل بن هشام والوليد بن المغيرة والنضر بن الحارث وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وأمية وأبي ابنا خلف والحارث بن عامر، يستمعون القرآن فقالوا للنضر: يا أبا قتيلة ما يقول محمد؟ قال: ما أدري ما يقول إلا أني أراه يحرك لسانه ويقول أساطير الأولين، مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية، وكان النضر كثير الحديث عن القرون وأخبارها. فقال أبو سفيان: إني أرى بعض ما يقول حقا، فقال أبو جهل: كلا لا نقر بشيء من هذا، وفي رواية: للموت أهون علينا من هذا، فأنزل الله عز وجل: {ومنهم من يستمع إليك} وإلى كلامك، {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً}، أغطية، جمع كنان، كالأعنة جمع عنان، {أَنْ يَفْقَهُوهُ}، أن يعلموه، قيل: معناه أن لا يفقهوه، وقيل: كراهة أن يفقهوه، {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا}، صمما وثقلا هذا دليل على أن الله تعالى يقلّب القلوب فيشرح بعضها للهدى، ويجعل بعضها في أكنة فلا تفقه كلام الله ولا تؤمن، {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ}، من المعجزات والدلالات، {لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ}، يعني: أحاديثهم وأقاصيصهم، والأساطير جمع: أسطورة، وإسطارة، وقيل: هي الترهات والأباطيل، وأصلها من سطرت، أي: كتبت.
{وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ} أي: ينهون الناس عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم {وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ}، أي: يتباعدون عنه بأنفسهم، نزلت في كفار مكة، قاله محمد بن الحنفية والسدي والضحاك، وقال قتادة: ينهون عن القرآن وعن النبي صلى الله عليه وسلم ويتباعدون عنه.
وقال ابن عباس ومقاتل نزلت في أبي طالب كان ينهى الناس عن أذى النبي صلى الله عليه وسلم ويمنعهم وينأى عن الإيمان به، أي: يبعد، حتى رُوي أنه اجتمع إليه رءوس المشركين وقالوا: خذ شابا من أصبحنا وجها، وادفع إلينا محمدا، فقال أبو طالب: ما أنصفتموني أدفع إليكم ولدي لتقتلوه وأربي ولدكم؟ وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم دعاه إلى الإيمان، فقال: لولا أن تعيرني قريش لأقررت بها عينك، ولكن أذب عنك ما حييت. وقال فيه أبياتا:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم *** حتى أوسد في التراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة *** وابشر بذاك وقر بذاك منك عيونا
ودعوتني وعرفت أنك ناصحي *** ولقد صدقت وكنت ثم أمينا
وعرضت دينا قد علمت بأنه *** من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار سبة *** لوجدتني سمحا بذاك مبينا
{وَإِنْ يُهْلِكُونَ}، أي: ما يهلكون، {إِلا أَنْفُسَهُمْ} أي: لا يرجع وبال فعلهم إلا إليهم، وأوزار الذين يصدونهم عليهم، {وَمَا يَشْعُرُونَ}..


قوله عز وجل: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} يعني: في النار، كقوله تعالى: {على ملك سليمان} أي: في ملك سليمان، وقيل: عرضوا على النار، وجواب {لو} محذوف معناه: لو تراهم في تلك الحالة لرأيت عجبا، {فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ} يعني: إلى الدنيا، {وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} قراءة العامة كلها بالرفع على معنى: يا ليتنا نرد ونحن لا نكذب، ونكون من المؤمنين، وقرأ حمزة وحفص ويعقوب {ولا نكذب}، {ونكون} بنصب الباء والنون على جواب التمني، أي: ليت ردنا وقع، وأن لا نكذب ونكون، والعرب تنصب جواب التمني بالواو كما تنصب بالفاء، وقرأ ابن عامر {نكذب} بالرفع و{نكون} بالنصب لأنهم تمنوا أن يكونوا من المؤمنين، وأخبروا عن أنفسهم أنهم لا يكذبون بآيات ربهم إن ردوا إلى الدنيا.
{بَلْ بَدَا لَهُمْ} قوله: {بل} تحته رد لقولهم، أي: ليس الأمر على ما قالوا إنهم لو ردوا لآمنوا، بل بدا لهم، ظهر لهم، {مَا كَانُوا يُخْفُونَ} يسرون، {مِنْ قَبْلُ} في الدنيا من كفرهم ومعاصيهم، وقيل: ما كانوا يخفون وهو قولهم {والله ربنا ما كنا مشركين} [الأنعام، 23]، فأخفوا شركهم وكتموا حتى شهدت عليهم جوارحهم بما كتموا وستروا، لأنهم كانوا لا يخفون كفرهم في الدنيا، إلا أن تجعل الآية في المنافقين، وقال المبرد: بل بدا لهم جزاء ما كانوا يخفون، وقال النضر بن شميل: بل بدا عنهم.
ثم قال: {وَلَوْ رُدُّوا} إلى الدنيا {لَعَادُوا لِمَا} يعني إلى ما {نُهُوا عَنْهُ} من الكفر، {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} في قولهم، لو رددنا إلى الدنيا لم نكذب بآيات ربنا وكنا من المؤمنين.
{وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} هذا إخبار عن إنكارهم البعث، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، هذا من قولهم لو ردوا لقالوه.
قوله عز وجل: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ} أي: على حكمه وقضائه ومسألته، وقيل: عرضوا على ربهم، {قَالَ} لهم وقيل: تقول لهم الخزنة بأمر الله، {أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ}؟ يعني: أليس هذا البعث والعذاب بالحق؟ {قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا} إنه حق، قال ابن عباس: هذا في موقف، وقولهم: والله ربنا ما كنا مشركين في موقف آخر، وفي القيامة مواقف، ففي موقف يقرون، وفي موقف ينكرون. {قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}.


{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ} أي: خسروا أنفسهم بتكذيبهم المصير إلى الله بالبعث بعد الموت، {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ} أي: القيامة {بَغْتَةً} أي: فجأة، {قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا} ندامتنا، ذكر على وجه النداء للمبالغة، وقال سيبويه: كأنه يقول: أيتها الحسرة هذا أوانك، {عَلَى مَا فَرَّطْنَا} أي: قصرنا {فِيهَا} أي: في الطاعة، وقيل: تركنا في الدنيا من عمل الآخرة.
قال محمد بن جرير: الهاء راجعة إلى الصفقة، وذلك أنه لما تبين لهم خسران صفقتهم ببيعهم الآخرة بالدنيا قالوا: يا حسرتنا على ما فرطنا فيها، أي: في الصفقة فترك ذكر الصفقة اكتفاء بذكر بقوله: {قَدْ خَسِرَ} لأن الخسران إنما يكون في صفقة بيع، والحسرة شدة الندم، حتى يتحسر النادم، كما يتحسر الذي تقوم به دابته في السفر البعيد، {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ} أثقالهم وآثامهم، {عَلَى ظُهُورِهِمْ} قال السدي وغيره: إن المؤمن إذ أخرج من قبره استقبله أحسن شيء صورة وأطيبه ريحا فيقول له: هل تعرفني؟ فيقول: لا فيقول: أنا عملك الصالح فاركبني، فقد طالما ركبتك في الدنيا، فذلك قوله عز وجل: {يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا} [مريم، 85] أي: ركبانا، وأما الكافر فيستقبله أقبح شيء صورة وأنتنه ريحا، فيقول: هل تعرفني؟ فيقول: لا. فيقول: أنا عملك الخبيث طالما ركبتني في الدنيأ فأنا اليوم أركبك، فهذا معنى قوله: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ} {أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} يحملون قال ابن عباس: بئس الحمل حملوا.
{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} باطل وغرور لا بقاء لها {وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ} قرأ ابن عامر {وَلَدَارُ الآخِرَةِ} مضافا أضاف الدار إلى الآخرة، ويضاف الشيء إلى نفسه عند اختلاف اللفظين، كقوله: {وحب الحصيد}، وقولهم: ربيع الأول ومسجد الجامع، سميت الدنيا لدنوها، وقيل: لدناءتها، وسميت الآخرة لأنها بعد الدنيا، {خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} الشرك، {أَفَلا تَعْقِلُونَ} أن الآخرة أفضل من الدنيا، قرأ أهل المدينة وابن عامر ويعقوب {أفلا تعقلون} بالتاء هاهنا وفي الأعراف وسورة يوسف ويس، ووافق أبو بكر في سورة يوسف، ووافق حفص إلا في سورة يس، وقرأ الآخرون بالياء فيهن.
قوله عز وجل: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} قال السدي: التقى الأخنس بن شريق وأبو جهل بن هشام، فقال الأخنس لأبي جهل يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس هاهنا أحد يسمع كلامك غيري، قال أبو جهل: والله إن محمدا لصادق، وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهب بنو قصيّ باللواء والسقاية والحجابة والندوة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش؟ فأنزل الله عز وجل هذه الآية.
وقال ناجية بن كعب: قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم لا نتهمك ولا نكذبك، ولكنا نكذب الذي جئت به، فأنزل الله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ}.
{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} بأنك كاذب، {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ} قرأ نافع والكسائي بالتخفيف، وقرأ الآخرون بالتشديد من التكذيب، والتكذيب هو أن تنسبه إلى الكذب، وتقول له: كذبت، والإكذاب هو أن تجده كاذبا، تقول العرب: أجدبت الأرض وأخصبتها إذا وجدتها جدبة ومخصبة، {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} يقول: إنهم لا يكذبونك في السر لأنهم عرفوا صدقك فيما مضى، وإنما يكذبون وحيي ويجحدون آياتي، كما قال: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم} [النمل، 94].

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8